السودان

بدأ التحكيم في السودان رحلته من نصوص محدودة في قانون الإجراءات المدنية لعام 1983، حتى وصل إلى إصدار قانون التحكيم لعام 2005، والذي تم ثم تجديده وإحلاله بالقانون الحالي لسنة 2016، في مسار يعكس إرادة التطوير والتحديث.
في عام 2018، انضم السودان إلى اتفاقية نيويورك لعام 1958 بشأن الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، وفي 26 مارس 2018 أودعت الدولة وثيقة انضمامها إلى الاتفاقية لدى الأمين العام للأمم المتحدة.
حتى الآن، لم يشهد السودان سوى عدد محدود من قضايا التحكيم الدولي، إذ عاش لسنوات طويلة في ظل عقوبات أمريكية قاسية أبعدته عن حركة التجارة الدولية, ولم تُجرِ الشركات الصينية والماليزية والهندية سوى استثمارات محدودة في قطاع النفط. ومع ذلك، فإن رفع تلك العقوبات مؤخرًا يفتح صفحة جديدة، تحمل معها بشائر قدوم استثمارات أجنبية أوسع وأملًا في نهضة اقتصادية واعدة.
يشهد السودان اليوم مرحلة إعادة هيكلة اقتصاده، تحت إشراف المجلس السيادي الانتقالي الذي شرع في تنفيذ إصلاحات تهدف إلى تحقيق الاستقرار. ومع هذا التحول، يترقب البلد تدفقًا متزايدًا من الاستثمارات الأجنبية في مجالات النفط والبنية التحتية والتعدين والإنشاءات، وهي عقود بطبيعتها ترتبط غالبًا بشركات أجنبية تفضل التحكيم الدولي كوسيلة لحل النزاعات. غير أن السودان ما زال يفتقر إلى مؤسسات معترف بها للتحكيم الدولي، ولا يضم سوى مراكز محلية محدودة للتحكيم الداخلي.
بالتالي فإن تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى السودان يستدعي إنشاء مؤسسات أوسع وأكثر تخصصًا للتحكيم الدولي، بما يمنح المستثمرين الثقة والأمان القانوني. سواء استندت هذه الحماية إلى معاهدات الاستثمار التي انضم إليها السودان، أو إلى قانون تشجيع الاستثمار لعام 2021، الذي أتاح للمستثمر الأجنبي خيارًا واضحًا إما اللجوء إلى محكمة متخصصة داخل السودان، أو الاحتكام إلى الاتفاقيات الاستثمارية الدولية التي يرتبط بها السودان, مثل:
الاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية لعام ١٩٨٠؛
اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول العربية لعام ١٩٧٤؛
اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول ومواطني الدول الأخرى لعام ١٩٦٥؛
الاتفاقية العامة للتعاون الاقتصادي والفني والتجاري بين الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي لعام ١٩٧٧؛ أو أي اتفاقية أخرى ذات صلة يكون السودان طرفًا فيها.
تنص المادة (7) من قانون التحكيم السوداني على أن التحكيم يُصنف "دوليًا" إذا: (أ) كانت المراكز الرئيسية لأعمال أطراف التحكيم تقع في دولتين مختلفين؛ و(ب) كان موضوع النزاع الذى يشمله اتفاق التحكيم يرتبط بأكثر من دولة. ويُعدّ تعريف "التحكيم الدولي" أضيق نطاقًا في قانون التحكيم السوداني منه في قانون الأونسيترال النموذجي (المادة 1 (3)).
هناك جوانب عديدة يختلف فيها قانون التحكيم عن قانون الأونسيترال النموذجي. وبالتالي، فإن القواعد المتعلقة بالتدابير المؤقتة في قانون التحكيم محدودة نسبيًا مقارنةً بتلك الواردة في قانون الأونسيترال النموذجي. ويشير قانون التحكيم ببساطة إلى القواعد المحلية لقانون الإجراءات المدنية لعام ١٩٨٣ دون أي تفصيل. كما يضع القانون النموذجي قواعد للاعتراف بالتدابير المؤقتة وإنفاذها؛ ولا توجد قواعد مماثلة في قانون التحكيم السوداني.
يقدّم القانون النموذجي ضماناتٍ عاليةً ضد أي تدخّل من المحاكم الوطنية في مسار التحكيم، إذ يقتصر تدخل القضاء في الحالات التي نصّ عليها القانون حصراً. أمّا قانون التحكيم السوداني فلا يحمل في طيّاته مثل هذا السياج الحامي للإجراءات.
ينصّ القانون النموذجي في مادته (13-3) على أنّه حتى في حال الطعن في أحد المحكّمين، يمكن لهيئة التحكيم – بما فيهم المحكَّم المطعون فيه – أن تواصل جلساتها وتصدر حكمها بسلام، ريثما تفصل المحكمة. بينما يفرض قانون التحكيم السوداني تعليق الإجراءات كاملة إلى أن يُحسم الطعن، وكأن عجلة العدالة تتوقف عن الدوران.
وبموجب القانون النموذجي، إذا قدم أحد الأطراف دفعاً بأن هيئة التحكيم لا تملك الاختصاص، يجوز للهيئة أن تبت في الدفع إما كمسألة أولية أو في حكم بشأن الموضوع، في حين يوجه قانون التحكيم السوداني الهيئة إلى إصدار حكمها قبل الاستماع إلى القضية.
يمنح القانون النموذجي هيئة التحكيم صلاحية تحديد اللغة المستخدمة في إجراءات التحكيم في حال عدم اتفاق الأطراف، بينما يجعل قانون التحكيم اللغة العربية لغةً معتمدة. ووفقًا للمادة (24) من قانون التحكيم السوداني، فإن "اللغة العربية هي لغة التحكيم، كون اللغة العربية هى لغة التحكيم ما لم يتفق طرفا النزاع على لغة أخرى مع إمكان وجود ترجمة للغات الأخرى التى يطلبها الأطراف".
لكي يكون أي اتفاق تحكيم قابلاً للتنفيذ في السودان، يجب أن يستوفي المتطلبات الأساسية لقابلية العقود للتنفيذ، والتي ينص عليها قانون المعاملات المدنية لعام 1984، وهي أهلية أطراف العقد، وصحة العقد، والالتزام بأي شكل يقتضيه القانون.
بموجب المادة (42) من قانون التحكيم السوداني، تشمل أسباب إبطال حكم التحكيم، من بين أمور أخرى، إذا كان اتفاق التحكيم (أ) غير موجود، أو (ب) باطلا، أو (ج) قابلا للإبطال، أو (د) انتهت مدته، أو (هـ) كان أحد الطرفين غير قادر بموجب القانون الذي يحكم أهلية هذا الطرف.
فيما يتعلق بقابلية النزاعات للتحكيم، يحصر القانون التحكيم في المعاملات المدنية، سواءً أكانت عقدية أم غير عقدية؛ إلا أنه يستثني أي مسألة لا يجوز فيها الصلح. ولا توجد قواعد في القانون السوداني بشأن تعيين محكمي الطوارئ، ولا ينص قانون التحكيم على التحكيم الجماعي.
في السودان، تنص المادة (110) من قانون الإجراءات المدنية لعام 1983 على أنه لا يجوز لأي محكمة في السودان، تحت أي ظرف من الظروف، أن تصدر حكمًا بدفع فائدة على أصل المبلغ المحكوم به. وبالتالي، لا يجوز دفع الفائدة بأي حال من الأحوال، وهذه القاعدة من مسائل النظام العام؛ حيث تُعتبر أي فائدة ربا محرمًا بموجب أحكام الشريعة الإسلامية. ويقتصر البطلان على الفائدة فقط، ولا يمتد إلى أصل الدين. ومع ذلك، فقد استثنى تشريع صدر مؤخرًا في مايو 2021 "الأعمال المالية والمصرفية التي تتبع النظام التقليدي" من هذا الحظر. وبناءً عليه، إذا تضمن حكم التحكيم دفع فوائد، فلا تُنفّذ المحاكم السودانية الجزء المتعلق بالفوائد من الحكم، إلا إذا كانت المعاملة محل التحكيم تتعلق بأعمال مالية أو مصرفية تعتمد النظام المالي التقليدي، وليس الإسلامي. وبموجب المادة 47 من قانون التحكيم، إذا يتضمن الحكم، أو أي جزء منه، ما يُخالف النظام العام في السودان؛ تُنفّذ المحكمة الجزء المتعلق بالنظام العام من الحكم، وتمتنع عن تنفيذ الجزء المخالف له.
فيما يتعلق بتنفيذ أحكام التحكيم، تنص المادة (46-1) من قانون التحكيم على أنه " يجوز للمحكمة المختصة أن تأمر بوقف التنفيذ إذا استند طلب بطلان حكم هيئة التحكيم على أسباب جدية". كذلك، إذا نقضت المحاكم في مقر التحكيم حكمًا، فلا يجوز تنفيذه في محاكم السودان، لأن أحد شروط تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية بموجب المادة (48) من قانون التحكيم هو أن يصبح الحكم نهائيًا وفقًا لقوانين مقر التحكيم. ولن تقبل المحكمة أي طلب للتنفيذ ريثما تُحسم الإجراءات في مقر التحكيم.
تنص المادة (48) من قانون التحكيم السوداني على أنه "لا يجوز تنفيذ حكم التحكيم الأجنبى أمام المحاكم السودانية إلا بعد التحقق من استيفائه للشروط الآتية:
(أ) الحكم أو الأمر صادر من هيئة أو مركز تحكيم طبقاً لقواعد الاختصاص التحكيمى الدولى المقرر فى قانون البلد الذى صدر فيه، وأنه أصبح نهائياً وفقاً لذلك القانون،
)ب) الخصوم فى الدعوى التى صدر فيها الحكم قد كلفوا بالحضور ومثلوا تمثيلاً صحيحاً ،
)ج) الحكم أو الأمر لا يتعارض مع حكم أو أمر سبق صدوره من المحاكم السودانية، أو من هيئات أو مراكز التحكيم حسبما يكون الحال فى السودان، فى موضوع النزاع،
(د ) الحكم لا يتضمن ما يخالف النظام العام أو الآداب فى السودان،
(هـ) يقبل البلد الذى صدر فيه الحكم المراد تنفيذه ، تنفيذ أحكام المحاكم ومراكز وهيئات التحكيم السودانية فى أراضيه أو بموجب اتفاقيات تنفيذ الأحكام التى يصادق عليها السودان.
بشكل عام، يتسم نهج المحاكم السودانية تجاه الاعتراف بقرارات التحكيم وتنفيذها بالإيجابية، ويُعدّ سبب رفض التنفيذ فقط في حالة المخالفة للنظام العام. ووفقًا للمادة (47) من قانون التحكيم، فإن أحد شروط تنفيذ قرار التحكيم الدولي في السودان هو ألا يتضمن القرار أي أمر يخالف النظام العام في السودان.
تنص المادة (47-د) من قانون التحكيم السوداني على أنه يجب التحقق من "عدم مخالفة الحكم أو أى جزء منه للنظام العام فى السودان، على أن تنفذ المحكمة ما هو متسق مع النظام العام وتمتنع عن تنفيذ الجزء المخالف للنظام العام". ومن الجدير بالذكر أن مسألة مخالفة النظام العام يمكن أن تثيرها المحكمة من تلقاء نفسها، حيث تنص المادة (42-3) من قانون التحكيم في السودان على أنه "يجوز لمحكمة الاستئناف أن تحكم ببطلان الحكم من تلقاء نفسها إذا كان الحكم يخالف النظام العام في السودان".
بموجب قانون العمل السوداني لعام ١٩٩٧، يُحال النزاع بين صاحب العمل وجميع أو مجموعة من موظفيه (أي اتفاقية العمل الجماعية) إلى التحكيم إذا تعذر حل هذا النزاع بالتفاوض أو التوفيق. وهذا نظام تحكيم خاص، وقد حدد له قانون العمل لعام ١٩٩٧ قواعد محددة. وبالتالي، ووفقًا لأحكام المادة (١١٢)، "إذا لم يُسوَّ النزاع وديًا خلال المدة المشار إليها في المادة (١٠٩)، تُحال القضية إلى هيئة تحكيم دون موافقة طرفي النزاع للبت فيها عند الاقتضاء".
ومن ثم، ثمة أسباب معقولة للاستنتاج بأن المشرع السوداني يُدخل أفضل ممارسات التحكيم الدولي لتلبية احتياجات الأطراف المتنازعة تجاريًا. وفيما يتعلق بالعقود الحكومية، يُحظر إدخال التحكيم فيها إلا في حالات الضرورة القصوى.
وفي سعيها لتفسير هذه "الضرورة القصوى"، أوضحت وزارة العدل أن هذا "يحدث عندما يكون هناك عقد مهم مع كيان أجنبي". (هل هذا مرسوم؟)
كما يجب أن نذكر قانون تشجيع الاستثمار لعام 2021 الذي يهدف إلى تهيئة البيئة الاستثمارية لجذب الاستثمارات بما يتماشى مع أهداف وأولويات السودان، فضلاً عن زيادة معدل النمو الاقتصادي، وخلق فرص العمل، واستغلال الموارد الطبيعية والبشرية، مما أسهم في إبراز التحكيم كوسيلة مثالية لحل النزاعات.
تنص المادة (34-1) من الفصل التاسع من قانون تشجيع الاستثمار على أنه "باستثناء المنازعات التي تحكمها أحكام الاتفاقيات المنصوص عليها في الفقرة الفرعية (2)، إذا نشأ أي نزاع قانوني يتعلق بالاستثمار، فيجب إحالته أولاً إلى المحكمة المختصة، ما لم يتفق الطرفان على إحالته إلى التحكيم أو التوفيق".